سورة الزمر - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} [الزمر: 39/ 49- 52].
إن طبع الإنسان غريب، فتراه إذا كان كافرا أو مشركا، وأصابه ضرّ من فقر أو مرض أو غيرهما، تضرّع إلى اللّه تعالى، واستعان به لكشف الضّر عنه، حتى إذا منحه اللّه نعمة من صحة وعافية وسلامة أو ثروة ومنصب وجاه، أو غير ذلك، زعم أنه وصل لذلك بخبرته ومهارته بأوجه المكاسب والعمل، أو لأنه يستحق ذلك، والحقيقة أن الحياة بأوضاعها كلها ابتلاء وخبرة للناس وامتحان لهم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، ولا يدركون أن كلّا من النعمة والنقمة اختبار وامتحان، ففي حال الإنعام ليعرف الشاكر من الجاحد، وفي حال الإفقار ليعلم الصابر والمؤمن من الجزع والجاحد، والجزع: ضدّ الصبر.
وهذه المقالة من المشركين، قالها الذين سبقوهم، فزعموا هذا الزعم، وادّعوا هذه الدعاوي مثل قارون وغيره، فما صحّ قولهم، ولم يفدهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا، ولا نفعهم جمع المال الكثير.
ترتّب على هذا الموقف المباين للصواب والسداد أن يحلّ بهم جزاء المعاصي والسيئات التي اكتسبوها من الأعمال، فعوقبوا في الدنيا بعقوبات شتى كخسف الأرض بقارون، وتدمير عاد وثمود وقوم لوط، ولهم أشدّ العقاب أيضا في الآخرة، وكذلك هؤلاء الظالمون الكافرون من مشركي مكة حين نزول الوحي وأمثالهم في كل زمان، سيصيبهم وبال كسبهم منكرات الأعمال، وسوء الاعتقاد، كما أصاب من قبلهم، من القحط والقتل والأسر والقهر، وما هم بمفلتين ولا ناجين بأنفسهم من سلطان الله تعالى، بل مردّهم ومرجعهم إليه، في قبضته وهيمنته، يصنع بهم ما يشاء من العقوبة.
إن هؤلاء المعاندين لرسالة الأنبياء والمعارضين لدعوة الإصلاح، لا يغني عنهم كسبهم وجمعهم للأموال، ولا يغني أمثالهم، والجميع يستحقون التوعّد، فأولئك الغابرون، أصابهم جزاء ما كسبوا، وكذلك الذين ظلموا بالكفر من هؤلاء المعاصرين للنّبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم سيصيبهم ما أصاب المتقدّمين.
ثم قرّر الله تعالى القرار الحقيقي في أمر الكسب والرزق وسعة النّعم، وطريقة قسمته بين الناس على وفق الحكمة والمصلحة للعباد أنفسهم، وهذا القرار هو: أو لم يعلم المشركون وأمثالهم أن الله هو الذي يبسط الرزق لقوم، ويضيّقه على قوم بمشيئته وسابق علمه، وليس ذلك لمهارة أحد ولا لعجزه، إن في ذلك لدلالات واضحات وعلامات قاطعات لقوم يؤمنون بالله وحده، ويصدّقون بسلطانه وقدرته الخارقة والشاملة.
وقد خصّ اللّه تعالى المؤمنين بأنهم هم الذين ينتفعون بالآيات ويدركون ذلك، ويقدرون مواقفهم السديدة في مواجهة الحقّ تعالى، ويبين هذا أيضا آية أخرى هي قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} [الشّورى: 42/ 27].
إن في هذا البيان الإلهي تقريرا لأمرين: الأول- أن اللّه تعالى هو لا غيره الرازق المتكفّل بأرزاق المخلوقات من بدء الحياة إلى الموت. والثاني- أن قسمة الرّزق بيد الله تعالى، لا تكون مرتبطة بالمهارات وضدّها من العجز، ولا بالإيمان ونقيضه، ولا بالاستقامة والطاعة وعكسها.
طريق التجديد والإصلاح:
من المعلوم أن الإنسان مركب على النقض، معرّض للأخطاء، فالخطأ ملازم لكل إنسان، لكن لا يجب ولا يصح استمرار الخطأ، وإنما العلاج سهل ويسير، والتخلص من آثار الزلات والانتكاسات أمر ليس بالعسير ولا بالشاق، ألا وهو العودة إلى اللّه تعالى، وتجديد الحياة، وتصحيح المسيرة بالتوبة الخالصة بين الإنسان وربه، وإخلاصه العمل له سبحانه، والتوجه الصحيح في فهم حقيقة الوجود، وضرورة الإيمان لكل إنسان، والالتزام بأصول الحق والسداد والاستقامة. قال الله تعالى مبينا هذا المنهاج ليفتح لنا باب الأمل والرجاء:


{قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)} [الزمر: 39/ 53- 59].
نزلت هذه الآية فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، أو تخبرنا أن لنا توبة، أو أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت الآية: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ} إلى قوله: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 25/ 68- 70] ونزل: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
وهذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة، تشمل الكافر والمؤمن.
المعنى: قل أيها النبي لقومك: يا عباد اللّه الذين أسرفوا أو تجاوزوا الحد في المعاصي، واستكثروا منها، لا تيأسوا من مغفرة اللّه تعالى، فإن اللّه تعالى يغفر جميع الذنوب إلا الشرك الذي لم يتب منه صاحبه، كما في آية أخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 4/ 48].
إن اللّه كثير المغفرة واسع الرحمة، فلا يعاقب بعد التوبة، فإن توبة الكافر تمحو كفره، وتوبة العاصي تمحو ذنبه، ومقتضى ظواهر القرآن: أن الذنب مغفور بالتوبة ولا بد، لكن الشرك ليس بمغفور إجماعا، وكل مغفرة أو عمل مقيد بمشيئة الله.
لكن المغفرة تتطلب أمرين: التوبة الخالصة لله تعالى، وإخلاص العمل لله سبحانه، لذا أمر اللّه بالإنابة إليه بالتوبة والطاعة، واجتناب المعاصي، وتسليم الأمر لله عز وجل، والرضا بحكمه وبأمره، من قبل مجيء عذاب الدنيا، والوقوع في الهزيمة المنكرة. ومعنى قوله: {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ}: ارجعوا وميلوا بنفوسكم.
وإخلاص العمل لله لا يكون إلا باتباع القرآن الكريم بإحلال حلاله، وتحريم حرامه، والتزام طاعته، وتجنب معصيته. ومعنى قوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} أي التزموا طريق التفهم والطاعة، واتبعوا أوامر اللّه واجتنبوا نواهيه، فهو أحسن من أن يسلك الإنسان طريق الغفلة والمعصية، وهذا هو المعنى المقصود ب (أحسن) وليس معناه أن بعض القرآن أحسن من بعض، من حيث هو قرآن، وإنما وجه الأحسنية: هو بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يجد من عواقبها، فما يأمر به اللّه خير مما يفعله الإنسان بهواه وعقله، قال السّدي: الأحسن: هو ما أمر الله تبارك وتعالى به في كتابه.
واتباع أوامر الله: مطلوب قبل مجيء العذاب فجأة من غير موعد، والناس غافلون عنه لاهون، لا يشعرون به، وهذا تهديد ووعيد.
وهذا منهج الحكمة والعقل، فإن المبادرة إلى التوبة والعمل الصالح أمر مطلوب قبل فوات الأوان، وذلك قبل الندم، وقبل أن تقول نفس مفرطة في التوبة: يا حسرتاه على التقصير في الإيمان والطاعة، وتدبّر القرآن والعمل بأوامره وإرشاداته، فلقد كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ بدين اللّه وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين، غير مصدّق بالله وحسابه. أو قبل أن تقول نفس: لو أن اللّه أرشدني إلى دينه، لكنت ممن يتقي اللّه ويجتنب الشرك. فهذه الجملة {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} هي من قول الكافر، مفادها الندامة على استهزائه بأمر الله، والسّخر: الاستهزاء. أو قبل أن تقول حين معاينة العذاب: ليت لي رجعة أخرى إلى الدنيا، فأكون من المؤمنين بالله، الموحّدين له، المحسنين في أعمالهم. ثم رد اللّه تعالى على أصحاب هذه التأملات بأنه قد جاءت آيات اللّه في قرآنه تنذر وتحذر، فكذبوا بها، وتكبروا عن اتباعها، وكانوا من الجاحدين بها، الكافرين بمضمونها.
إن هذه التحذيرات من سوء العاقبة مفيدة في الدنيا، لا في الآخرة، فإن الدنيا: هي دار التكليف، والآخرة هي دار الحساب والجزاء، وفي الآخرة لا ينفع الندم، ولا مجال لإصلاح العمل أو العودة للدنيا لتصحيح الأعمال.
الوحدانية والخلق والجزاء:
يجمع اللّه تعالى في بضع آيات موضوعات متعددة، يساند بعضها بعضا، وتحقق الغاية منها لإصلاح الإنسان، وتحذيره من الانحراف والعصيان، فيكون الوعد بجوار الوعيد، والنهي يقابل الأمر، والترغيب مع الترهيب، والإخبار بسوء مصير المكذبين بآيات الله، ونجاة المتقين في عالم القيامة، واقتران التذكير بأن اللّه خالق كل شيء، مع التفرد بالسلطان والحساب والجزاء، والتحذير من إحباط الشرك جميع الأعمال، والأمر بعبادة اللّه وشكره، وهذا اللون من الجمع بين المتقابلات يتميز به أسلوب القرآن المتميز بالإعجاز، وارتقاء المستوى البلاغي والفصاحة إلى أرقى الحدود لأن الأشياء تتبين بأضدادها، قال اللّه تعالى:


{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 39/ 60- 67].
هذه ألوان من الأخبار المتضمنة للوعيد والتحذير والإنذار لمعاصري النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ومن يأتي بعدهم، تتضمن بيان خواص الألوهية والوحدانية، وكمال العظمة والسلطان والقدرة الإلهية.
أول هذه الخواص: أن اللّه تعالى هو المتفرد بالخلق والإبداع وإيجاد جميع الأشياء في الدنيا والآخرة، وأنه القائم على جميع الأمور المستقل بها، الموكل بحفظها وتدبيرها، والمتولي إكمالها وتتميمها، وهذا دليل على أن اللّه هو الخالق لجميع أعمال الناس.
وأخبر أيها النبي بخبر مهم جدا: وهو أنك وكل إنسان ترى المشركين يوم القيامة، الذين كذبوا على اللّه في ادعائهم شريكا لله، وجوههم مسودة مظلمة بكذبهم وافترائهم، لما شاهدوه من مآس وأحزان، وعذاب وسخط، إن في جهنم مسكنا ومقاما للمتكبرين عن طاعة الله، الذين أبوا الانقياد للحق والطاعة.
وأخبر في مقابل هؤلاء الجناة للمعادلة والموازنة عن حال المتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي، فإن اللّه تعالى ينجيهم من النار، ويدخلهم الجنة، ويحميهم من السوء والكدر، ومن الحزن والألم، فهم آمنون من كل فزع.
وثاني خواص القدرة الإلهية: أن اللّه تعالى هو المتصرف والمتحكم في شؤون السماوات والأرض، وبيده خزائن الخيرات فيهما: {لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وهذه استعارة يراد بها بيان قدرة اللّه تعالى المطلقة وتحكم اللّه في مخزونات الكون حفظا وتدبيرا، ومنحا ومنعا، أو عطاء وحرمانا، لكن الذين جحدوا بآيات الله الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته، في أنحاء السماوات والأرض، أولئك لا غيرهم هم الذين خسروا أنفسهم، واستحقوا الخلود في النار، جزاء كفرهم.
وإذا كان اللّه تعالى هو المتميز بالوحدانية والقدرة المطلقة، فيستحق المشركون التوبيخ على ترك عبادة الله، والتوجه نحو عبادة الأصنام، فقل أيها الرسول لكفرة قومك وأمثالهم: كيف تأمروني أيها الجهال بعبادة غير اللّه تعالى؟ بعد قيام الأدلة القطعية على تفرده بالألوهية، فهو خالق الأشياء ومدبرها ورازق الأحياء، فلا تصلح العبادة إلا له تعالى.
وسبب نزول هذه الآية:
هو كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن المشركين من جهلهم، دعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عبادة آلهتهم، وأن يعبدوا معه إلهه، فنزلت هذه الآية: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)}.
ثم قرّر اللّه تعالى مبدأ إعلان الوحدانية الدائم في قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} أي إن أمر المشركين المساومين عجيب، فلقد أوحي إلى النبي محمد وإلى كل نبي عليهم الصلاة والسّلام: لئن أشركت مع اللّه إلها آخر، ليبطلنّ عملك، ولتكونن من الذين خسروا أنفسهم، وأضاعوا دنياهم وأخراهم. وهذا دليل على أن الشرك يحبط الأعمال، ويضيعها هباء منثورا، ولو كانت خيرا.
ثم أكد اللّه تعالى مقتضى الوحدانية بأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن يكون من الشاكرين نعم اللّه بالهداية والرسالة النبوية.
أما المشركون: فلم يقدروا اللّه حق قدره، أي لم يعظموه حق تعظيمه، حين عبدوا معه إلها آخر، فإن الأرض كلها تحت سلطان اللّه وتصرفه وملكه والسماوات خاضعة لقدرته وسلطانه ومشيئته، تنزه اللّه عما يشركون به من الشركاء. والمراد باليمين والقبضة في الآيات: أنها عبارة عن القدرة والقوة.
وسبب نزول هذه الآية كما روى الطبري: هو الرد على رهط من اليهود حين أتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: يا محمد، هذا اللّه خلق الخلق، فمن خلقه؟ فغضب النبي، ثم جاءه الجواب عما سألوا عنه بنزول سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فلما تلاها عليهم النبي قالوا: صف لنا ربك، كيف خلقه، وكيف عضده، وكيف ذراعه؟ فغضب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أشد من غضبه الأول، ثم ساورهم، فأتاه جبريل فقال مثل مقاله، وأتاه بجواب ما سألوه عنه: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية.
نفخة الصور وتوابعها:
لكل شيء مخلوق نهاية، والدوام والخلود ابتداء وبقاء هو لله تعالى، والنهاية الحتمية للمخلوقات جميعها تكون يوم القيامة، وهي أمر سهل على اللّه تعالى، لأن من ملك البدء في الخلق، أمكنة الإعادة، وهما سواء بالنسبة للخالق عز وجل، ونهاية الكون تكون بنفخات ثلاث: الأولى صعقة الفزع، وهي ليست مذكورة في الآيات الآتية، ثم نفخة الصور للإماتة، ثم نفخة البعث من القبور، وهاتان النفختان مذكورتان في الآيات الآتية، ويتبع ذلك فصل الخصومات أو المنازعات بين الناس، على منهج الحق التام والعدل المطلق، ثم إيصال الحق لصاحبه. قال اللّه تعالى واصفا هذه الأحداث الجسام:

1 | 2 | 3 | 4 | 5